درويش و«أنسنة العدو»

الطاهر الطويل

عشر سنوات مرت على وفاة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. وشاعر بهذا الحجم لا يمكن لذكرى رحيله أن تمر في صمت. لذلك، فإن بعض القنوات العربية التي تحترم نفسها ومشاهديها ورسالتها الإعلامية عملت على استحضار المناسبة، من خلال تقديم برامج وإدراج أشعار للراحل وإنجاز تقارير إخبارية حول الفعاليات التي أقيمت خلال الأيام القليلة الماضية.
جهاز «الريموت كونترول» قادنا بشكل عفوي وغير انتقائي إلى عينة من هذه المتابعات، دون أن يعني ذلك إقصاء لباقي القنوات التلفزيونية، التي اهتمت بالحدث بما يليق به من اهتمام.
وفي هذا الصدد، طالعتنا قناة «الميادين» اللبنانية بتقرير عن احتفالية كبرى أقيمت في «قصر اليونسكو» في بيروت. اختيارُ ذلك المكان لم يكن صدفة، ففيه صَدَح محمود درويش بقصائده ذاتَ لقاء باذخ.
وأخبرتنا القناة أنه خلال تلك الأمسية التي نظمها «مجلس الفكر»، جرى الإعلان عن إحداث كرسي جامعي يحمل اسمه في بيروت، «الخيمة الأخيرة» و»النجمة الأخيرة»، كما أطلق عليها هو نفسه.
وانتقلنا إلى قناة «النهار» المصرية، فوجدنا الإعلامي محمود سعد قد خصص جزءا من برنامجه «باب الخلق» لذكرى محمود درويش الذي اعتبر أنه «وضع لبنة عظيمة في الحياة»، وأن أشعاره تنضح بكل المعاني والقيم والأحاسيس والدلالات.
وتوقف تلفزيون سلطنة عمان عند الحدث، فأفرد تقريرا إخباريا للندوة الفكرية الكبرى التي نظمتها «شبكة المصنعة الثقافية»، حيث استحضر المشاركون مسيرة الراحل وعطاءه الأدبي الغزير، وأمكن الإصغاء إلى قصيدته الشهيرة «سنكتب من أجل أحلامنا» في أداء فني مميز.
وخصصت قناة «الجزيرة» إحدى حلقات «المسائية» لذكرى رحيل الشاعر، مشيرة إلى أنه خلال هذه العشر سنوات لم يتغير شيء مما رجاه محمود درويش في قصائده، فلا الوطن تحرر، ولا أخذت معاني المقاومة حظوظها، ولا آمن العالم بالحب كما ينبغي.
وحضر شخصية محمود درويش أيضا من خلال العودة إلى آخر حوار إعلامي أجراه معه التلفزيون السوري قبل رحيله، وفيه عبّر الشاعر الفلسطيني عن مواقفه الفكرية والسياسية المبدئية التي قد تصدم الكثيرين، حيث انتقد «الصورة النمطية» التي يحملها الكثير من العرب عن اليهود والإسرائيليين، فقال: «هم ليسوا ملائكة كما يتصورون أنفسهم وليسوا كلهم شياطين كما نتصورهم نحن». وكشف أنه كان لديه جيران يهود، كما أن الحزب اليساري الذي كان ينتمي إليه ضم بين صفوفه يهودا.
وتحدث عن وجود وعي مبكر لديه بضرورة «أنسنة العدو»، أي النظر إليه كبشر بطبائع مختلفة، مؤكدا أن ذلك الوعي هو ما حمى وعيه وإنسانيته وصورته الوطنية والقومية من التعميم ومن تهمة والعنصرية و»اللاسامية» (مع أنه اتُّهم بها من طرف بعض الصهاينة). وأوضح أنه بذلك كان يقدم خدمة لنفسه ولشعبه، بكونه أكثر إنسانية وأكثر انفتاحا من الآخر.
ومن العبارات المسكوكة التي وردت في الحوار التلفزيوني كذلك، قول درويش: «لقد قضينا أكثر من خمسين سنة ونحن نتكلم حربا ونعمل سلاما، وهم كانوا يتكلمون سلاما ويخوضون حربا. لا تستطيع أن تواجه العالم وأنت لك موقف معاد للسلام، ولكن يجب أن تكون لك شروط مختلفة عن الشروط الإسرائيلية. السلام من أجل المصلحة الوطنية من أجل إنقاذ حقوقنا ومن أجل إنقاذ ما تبقى لنا من الأرض على أساس شروط حقوقية ودولية يمكن ان نتعامل معها».
وفي تقدير صاحب «مديح الظل العالي»، فالعرب يعيشون لحظة تاريخية مقسمين بين أصوليتين: أصولية عبادة الماضي وأصولية عبادة المستقبل، ويظل الحاضر هو الضحية. ويرى أنه لا أحد منع الجيوش العربية من تحرير فلسطين، لا قصيدة شعرية ولا جهة سياسية، ولكن منعتها موازين القوى، لا نستطيع مهما تحلينا بالمبدئية أن نتناسى الأمور الواقعية. لذلك، يجب أن نكون مرنين ومبدئيين في الوقت نفسه، وفق تصريح محمود درويش.
وسئل عن سر رفضه حقيبة وزارة الثقافة حين عُرضت عليه، فأجاب إنه لا يصلح للسلطة لكونها ستقيّد حريته كشاعر ولا سيما أنه كان معارضا لاتفاق أوسلو. أما عن سبب عدم ترشحه لجائزة نوبل للآداب، فقال بتواضع إنه لا يستحقها لأنها تعطى لكبار الشعراء ولها شروطها الأدبية والظروف المحيطة بها.
أما بخصوص رفض السلطات الإسرائيلية تدريس شعره في المؤسسات التعليمية، فأرجع ذلك إلى كونهم يحسدون الفلسطينيين على حبهم للأرض، وأيضا إلى خشيتهم من انفضاح أسطورة «أرض الميعاد»، حيث يصوّرون فلسطين على أنها أرض بلا شعب، وأنها كانت فارغة وتنتظرهم لسنين من أجل أن يملؤوه، بحسب أساطيرهم الواهية!

(نشر بتاريخ 17 أغسطس 2018)

ذات صلة